Saturday

ابجدية النضال والاستشهاد

ابجدية النضال والاستشهاد

الفرح والسعادة لحظات نحصل عليها اقتناصاً فنمنح انفسنا شعوراً قوياً ولو الى حين، أما الحزن والتعب والآسى واليأس لهم الاوقات الاطول. وهي كذلك لدى الناس اللذين يفقدون عزيزاً عليهم، ربما اكثر من اناس اخرين.. لذا نتعلق بالامل ونفرد له مساحة واسعة، وبقدر ما يحزننا غياب الاشخاص الذين نحبهم نبحث في ما تركوه عن الامال التي سعوا اليها وحفروا فيها مسارات للحلم والضوء. هذه المقالة المتواضعة مكرسة لواحد من الغائبين الذين جهدوا لفتح مسارات النضال الحقيقي الذي ما زلنا نذكره على انه من اهم المراحل النضالية الصادقة.. قاتلوا حينها واستشهدوا من اجل بناء وطن افضل.. فكان سعيهم مميزاً حتى في استشهادهم:
"لا يهمني اين ومتى وكيف اموت.. بل كل ما يهمني هو ان تبقى الثورة مشتعلة كي لا يرزح العالم بثقله فوق اجساد الفقراء والمستضعفين".. قول غيفارا الخالد هذا قرأته على ضريح الشهيد نزيه يونس.. كنت كلما مريت في جبانة البلدة التفت الى قبره لأعاود قراءة تلك "الانشودة" حيث لم اكن ادر ِ ما المقصود من هذا التعبير على الضريح.. لكنه ملفت للنظر ان تقرأ هذه الكلمات, الغير القرآنية التي تـٌزَيـِّنُ عادة اضرحة الاموات والشهداء.. لم نكن نعلم مدى تعمق البعض من الشهداء في هذه الافكار حتى تكتب على اضرحتهم. كان ذلك في العام 1976 وفي خِضم الحرب الأهلية. كان اليسار مشاركاً بشكل فعال في تلك الصدامات، لم ندر ِ أسبابها او اهدافها لصغر عمرنا.. على الرغم من أن نتائجها مازالت ماثلة في الذاكرة وبقوة كصفوفنا المدرسية التي تحولت يومذاك الى مساكن يقيم فيها المهجرون من بيروت ومن اماكن اندلاع المعارك، فاصبحت المدرسة مليئة بهم واصبحنا نذهب اليهم لعلنا نستحصل على جزء من المعونات الغذائية التي كانت توزع عليهم.. احداث لا نعرف كيف نعبر عنها.. الموت كان نادراً.. بدأت الحرب تخطف من الكثيرين حياتهم خاصة من كان بعمر الورد وريعان الصبا، تماماً كما كان نزيه.. شبان حملوا السلاح حباً بتغيير الحياة التي كان يعيشها ابناء القرى.. وهو القادم من الآرياف المهملة من قبل الدويلات المتعاقبة التي كانت وما زالت.. امتشق سلاحه باكراً، اعتمر قبعة غيفارا, وقال:"فلتكن اجسادنا جسراً يعبر عليه الحالمون بتغيير الاوطان نحو الافضل".. كان له ما تمنى. سقط شهيداً.. "استشهد ليحيا الوطن".. "استشهد دفاعاً عن لبنان وعروبته".. "سقط شهيداً في مواجهات العصابات الانعزالية المتعاملة مع العدو الاسرائيلي".. جميعها عبارات رددت عنه في احاديث الناس وعند تشييعه.. ونحن نذكره هادئاً او هكذا كان يبدو لنا.. لا نعرف كيف يحدث الامر، لكن سرعان ما يأخذك الحدث لتعيش فيه وتلتقط العبرة رغم انك لا تدري ما الذي يجري من حولك.. البلدة في حركة غير طبيعية, الناس يتوافدون الى منزل اهله.. المقاتلون الذين يعنيهم الامر ارتدوا البزات العسكرية يحملون اسلحتهم "سمينوف" و "كلاشينكوف". ما زالت صورة شقيقتي ماثلة في مخيلتي تحمل سلاحها وتنتظم في صفوف الرفاق اللذين يستعدون لأستقبال الشهيد.. الصراخ يعلوا من داخل البيت.. وتجمعات الناس المذهولة بالحدث تتهامس عن الفخر والاعتزاز به.. تتوالى اخبار وصوله.. ها هو يصل في سيارة الاسعاف.. الأرز والورود.. تغطي الشارع وجثمان الشهيد..كما الدموع تغطي وجنات النساء، شيء مفاجيء. كان.. شهيدا من الشهداء الأوائل حرب اهلية لم تكن "اهلية".. كانت حربا بين مشروعين، بين "اهليتين مختلفتين".. واحدة يمثل "مشروعها" نزيه وهي الدفاع عن لبنان وعروبته واخرى تمثل من تمثل من مشروع انعزالي كان يريد سلخ لبنان عن كيانه لكي يرميه في احضان اسرائيل وحلفائها.. لهذا سقط الشهداء ونزيه واحداً منهم.. حمل سلاحه باكراً ليصبح منذ ذلك الحين لوعة الغياب.. بعدما كان الأب لأشقائه .. كان الكبير(المقيم) لأمه بعد ان غادر والده الحياة في موت مفاجيء، عندما توقف قلبه عن الخفقان .. الصورة تلك لا تغيب عن البال.. بأجسادهم كانوا يرسمون شكلاً للوطن.. من يومها ما عدنا التقينا به.. لا بعد قليل التقينا، ولا بعد عام ولا بعد جيل.. امعن في الغياب تاركاً صورةً له بالابيض والاسود.. جل ما يعبر فيها انه من صناع وطن، من مسيرة شهداء تسقط كل يوم من اجل القضية الأسمى.. انه حتماً لو لم يمض ِ انذاك شهيداً في بيروت, كان ليمضي في احدى ساحات الجنوب.. لأن الغاصب واحد، والمعتدى واحد.. هو سقط شهيداً في مواجهة اتباع اسرائيل في الداخل.. مثل صورته مثل شهادته كان لأبناء بلدته طريقاً هو افتتحها .. كأنك لا تعرفه، خبأ وجهه واسمه، لكنه عاود مثل "يسرى" مثل "ابو قاسم" و"هاشم" مثل "عباس" مثل (سناء وبلال) والعديد العديد من الشهداء..

"امي عندما يحمل الفجر اليك بقايا جثتي.. او تأتيك النجوم ببطاقة استشهادي.. لا تحزني ربما كان موتي حياة للكثيرين من المعذبين في وطني".. حتماً ستذرفين دموعاً على لوعة غيابي التي اصابتك برحيلي.. لم اكن احسب ان هذا الموت سيكون عميقاً الى هذا الحد.. اشيعي بالخاطرة التي دونتها في ذاكرتك.. قضيتي المكتوبة بحبر الدم على اوراق تركتها بين كتبي المدرسية وصورة غيفارا المعلقة فوق سريري.. ها انا الأن حاضرٌ .. غبت عنك يا امي لأكون حاضراً اكثر من الغياب.. انظري بعد اكثر من 25 عاماً على استشهادي جاء من يسأل عن صورتي .. من يكتب عني بضع كلمات متواضعة.. يستذكرني كما وكأني مت البارحة.. يستذكرني وانا لا اذكره الا هو صغيراً.. يوم أحضروا جسدي الموشوم بالرصاص.. المنثور عليه ورود حمراء وراية ناضلت من اجلها.. امي يا امي.. قبل انا افارق الحياة تراءت امامي وجوهكم انتي واخوتي جميعاً.. كم تمنيت حينها وانا اغادر الحياة لو اني استطيع ان احضن كل واحد منكم.. امي رحلت ودمعتي يكتنفها الحزن والفرح معاً.. حزناً على غيابي عنكم وفرحاً لشهادتي المبكرة.. لكنني سأترك صورتي التي تقول عني اشياء واشياء.. اودعت لك صورة بوجه رفيق ترينه كل يوم.. رفيقاً تعلمت واياه سوياً ابجدية النضال.. رفيقاً لا يقل شأناً عني.. وسيرتي التي وحده يعرفها، يرويها بصدق كما الشمس كل نهار، وانتم تعرفونه جيداً ،اسمه "حسن".. هو من شاهدني اخيراً وقال لي اشياء كتبها بدمعه الذي تساقط منه وهو ينظر الي النظرة الاخيرة..

نزيه.. اكتب عنك وصورة الذكرى من اليوم الذي احضروك فيه محمولاً بنعش تراقص على اكف الرفاق والعهد المقطوع ان يتابعوا من بعدك المسيرة.. من يومها توالت قوافل الشهداء التي عمت كل الوطن.. اكثرها كانت ساحات الجنوب التي اصبحت الجبهة الحقيقية والوحيدة التي تنهزم فيها كل يوم راعية العصابات الانعزالية التي قاتلتها انت وهي تعاود الظهور بأشكال مختلفة وملونة.

نزيه.. كل يوم تدون على صفحة الجنوب سيرة شهيد مثلك تماماً ليسكن بعضهم قربك والبعض لا يعود.. هو النهر الذي يجاري بصوته قبرك الذي يحرضنا على الوقوف قربه لنقرأ دائماً العبارة التي تقول انه لم يكن يهمك اين ومتى وكيف تموت.. بقدر ما كان يهمك ان تدفع بالثورة الى الاشتعال كي لا يرزح العالم بثقله على اجساد المستضعفين والفقراء.. وان يعيشوا بكرامة.. لأنك كنت انت واهلك من هذه الطبقة التي دافعت عنها.. حملت يومها السلاح وصرخت بأعلى صوتك، هذا دمي قرباناً للقضية التي تعني كل الفقراء والمستضعفين في العالم.. لتتابع درب تشي غيفارا وليكتب على ضريحك لحنه الانشودة.. وليقال عنك .. مات ليحيا الوطن.. فيأتي صوت من بعيد يقول..

اجمل الامهات التي انتظرت ابنها وعاد مستشهداً.. فبكت دمعتين ووردة.. ولم تنزوي في ثياب الحداد...

نزيه يونس ولد في نيسان / ابريل 1956 ، استشهد في 20 تموز / يوليو 1976عن 20 عاما...



No comments: