Saturday

احساس الغريب

كلام عابر

1- احلام الخنادق

احساس الغريب


دوي انفجار هائل.. دخان سوداء، جميع اتجاهات القرية حددت مكانه.

المشهد كان مؤلم جداً.. اشلائهم في كل مكان.. بعضها بعيداً عشرات الامتار، عملت الفرق المختصة على جمعها مع بعض اهالي القرية.. حددت اصحابها من البستهم.. جمعت في النعوش التي حملت بعدها على الاكف عالياً وراحوا يتراقصون بها.. النسوة ينثرون الارز والورود وماء الزهر... النعوش المرتفعة الملفوفة بالاعلام الحمراء من بين جموع المشيعين.. الامهات يزغردن لهم.. امر غريب! كان غريباً جداً بالنسبة لي.. الحدث مأتم وتشيع كيف يزغردون ويرقصون! هل يفرحون بالموت؟ كيف ذلك.. بعدما مضى على استشهادهم اشهر حاولت ان اسأل امي عن هذا الامر..امي المتشحة بالسواد.. التي تبكيه ليل نهار بعدما كانت ايضاً فقدت ابنها الأول بالتبني..

السؤال لم يكن بالصعب الجواب عليه.. درجت العادة عندما يشيعون الشباب من يكن منهم بعمر يسمح له ان يكون عريساً.. وحين يستشهدون بهذا العمر يصنعون من مأتمهم اعراساً..(اعراس الشهداء) عادة استلهمها الشيعة خصوصاً من "عرس القاسم" الذي قتل بثورة الأمام الحسين(ع) .. بعد المأتم الاعراس وري الشهداء الثرى.. ثلة من عسكر الحزب الشيوعي تتجمع في ترتيب مرصوص تؤدي التحية العسكرية لهم اطلقوا واحد وعشرون طلقة وداع.. الصبية يجمعون فراغ الرصاص.. اذرف دموعي بعد الصدمة التي مريت بها.. الامر ما زال غريب بالنسبة لي.. حدث الموت هذا يربكني.. من يومها وانا لدي احساس بأنني سأموت في ذات التاريخ الذي ماتوا هم به.. لا اعرف ما هو هذا الشيء الذي يجعلني اعتقد ذلك.. انظر الى كل شي من حولي، كأنني في وداع دائم.. انظر لأهلي ، لأصدقائي مودعاً متأملاً بنظراتي.. ربما سبب ذلك تلك القذيفة التي جئت بها من تحت الأرض لكي تنفجر بهم، لتذهب بحياتهم الى الغروب الأخير.. كأن الناس تشير الي.. ينظروني في اشمئزاز.. كل ذلك كان عكس ما كنت اعتقد.. جميعهم ينظر لي كناجي من تلك القذيفة او القذائف التي عملت على تفكيكها من بين بيوت الناس (كان عمري خمسة عشرة عاماً) مولعاً كنت بتفكيك تلك القنابل.. كأن المعروف الذي صنعته للناس كان شيء من ضروب الجنون.. كم كان الامر خطيراً ان بقيت تلك الاشياء بين اطفالهم.. الناس تنظر لي امتناناً.. بلحظة ما تحول الامر الى افتخار.. لكنني بت حينها اخاف من فعل ذلك.. كان الجميع قد حذرني من معاودة الامر.. دموع امي تتوسل لي ان لا احاول فعل ذلك.. قالت: انها ستموت ان حصل لي مكروهاً بعد اخي وضيفنا الذي انتسب الينا وعاش معنا حتى اصبح واحداً منا.. هو الاخر كان موته فجيعاً.. كأن المأساة تلاحقنا .. مارسيل خليفة يشدو "في يا حادي العيس.. سلملي على امي.. واحكي لها ما جرى، واشكي لها همي".. كلمات الاغنية تلك تحملني الى احساس غريب.. تلك التي اصبحت عشقنا كلما سمعناها ونحن في المواقع الحدوية كم كنا نشعر بالحنين الى امهاتنا ونحن بعيدين عنهن..

تدوين عابر لكلمات عابرة.. كانت البداية عن "احلام الخنادق" الى "احساس الغريب".. انها بالكاد تعابير خاصة جداً.. لكنها حكايات متكررة على امتداد الوطن.. نحرص على ان نكتب السيرة الذاتية بكل تفاصيلها لكي تكتمل.. لكي تأتي بالمعنى وتذهب به الى حيث نريد.. كل ايامنا التي نتحدث عنها لا يمكن الا ان نجمعها عبر هذه الكلمات.. بالكاد ذكريات، فيها الشقاء الذي يتكرر كل يوم فوق ارض الوطن.. تلك التي يمر فيها الانسان مثل عناوين ايام قد تكون مرت عليك سنوات وانت تعتقد انك في اليوم ذاته..
احياناً تنقلب حياتك راساً على عقب ومن غير ان تتوقع ذلك.. واحياناً رتيبة الى حد الملل..

الان اصبح لدي احساس اخر.. اكتب الكلمات مثلما تريد ان تكون.. فتفلت من ذاكرتي مثل فراشة تعلو وتهبط.. تتأرجح في كل الجهات مثل الفرح والحزن.. تقترب وتبتعد مثل الموت والحياة.. يتملكني ضمور الصمت اكثر من التعبير.. حتى وان كنت تقرأ هذه الكلمات، فلذلك اعادة لمعايشة الحدث الحالة التي تكتب عنها لتجمع شتات ما يمر به الانسان ..من هواجس مرت عليك ومتراكمة كانت عبر سنوات عمرك الذي كان غير ذي فائدة او العكس.. لمجرد ان تكتب تعبير صغير فيتدخل احداً قائلاً لك اكتب واكتب.. لعل التعبير والكلام عن تلك الحكايات اجدى قيمة من تكديسها في الذاكرة المدفونة.. فيتساقط الحبر من يراعك مثل دموع طفل بكى لفقدان لعبته حين مزقتها شظايا قذيفة، سقطت بالقرب من سريره غير ابه بما حصل من حوله، الا تلك اللعبة التي كانت تنام الى جانبه.. ربما كانت كتابتي تشبه حادثة هذا الطقل.. مع كل الضجيج الذي يدور من حولي.. تراني اصب اهتماماتي وابدء في تدوين ذكريات عمرها عشرات السنين..اذاً؟ لأن تكتب فلا بد ان يكون هناك بداية.. لا بأس ان طالت، فالبداية عن حكايات الشقاء دائماً رتيبة.. مازال الوقت مبكراً للوصول الى العنف في الحياة التي مريت بها، هي تتشابه كثيراً مع احداث مر بها ابناء جيلي ما قبله وما بعده.. دائماً البدايات هكذا.. فالى تدوين اخر...

زكريا اسماعيل

No comments: