Saturday

رحال على اطراف القرى الجنوبية

رحال على اطراف القرى الجنوبية..

حكاية رفيق التقيته صدفة..


مشينا حاملين مفتاحه وهو ركام.. ما زال في علاقة مفاتيحي .. لا اعرف من اين ادخل.. من الباب، من الشباك، كله اصبح "كومة" حجار.. اهً كفررمان ما اجملك وانا قادماً اليك اليوم وامس وغداً.. اهً على بيوتك ما اروعها وهي متلاصقة قرب بعضها.. لم يأتي الصباح بعد..ولم تشرق الشمس.. ولم نشيع الشهيد بعد.. ولم تنتهي اصداء العملية البطولية على تلة السويداء.. لم نأكل خبز الصاج، ولم نقطف الزيتون اليانع.. الدبابات ترابض فوق كروم زيتوننا وتكاد تلامس اسطح منازلنا.. اهً كفررمان متى نلتقي.. ومتى نتعانق في حبنا المشهود بيننا...

كان لنا بيت في قريتنا الجنوبية الوديعة.. كانت امي تسيج مدخله بحبق الجوري.. ومعرشة الياسمين التي تعلو باب الدار..حيث مسكبة النعنع التي تفوح منها رائحة لا مثيل لها.. وشجيرات الليمون والحامض التي نتفيء بظلها عند الظهيرة.. بيتنا الذي بنته ايدي الفقراء.. بناه والدي لبنة لبنة حتى صار غطائنا، نلوذ تحت سقفه.. نحتمي به من كل عواصف الحياة،.. كل ذكريات طفولتنا تبقى في الاشياء البسيطة في ذلك البيت الذي ولدنا فيه، ذلك الذي ربينا بين حيطانه نتعمشق على شبابيكه لنشاهد منه خيوط المطر المتساقطة على بلدتنا كون بيتنا يعلو العديد من البيوت من حيث الطبيعة الجغرافية فقط.. نطبع على حيطانه رسوماتنا الحزبية التي تعبر عن اهوائنا السياسية خاصة تلك التي تحكي عن بطولات المقاومة الوطنية اللبنانية وصور شهدائها المعلقة على كل جدران البيت.. كل معاني حياتك تنمو بين حناياه، تحت سقفه الذي جهد ابائنا وقبله اجدادنا في بناءه، ليقيك من شر العذاب اليومي.. كل ذلك تشعر به وانت تعيش في بيتك حتى يأتي اليوم الذي تجد فيه كل احلامك الوردية اصبحت تحت ركام البيت الذي عشت به مراحل طفولتك، وحياتك، ودراستك الابتدائية.. بلحظة عنف تنهمر القذائف من الدبابات الاسرائيلية التي ترابض فوق التلة المواجهة لبيتنا المحاط بالشجر الذي التهب حتى مات واقفاً.. حينها كان لا بد لنا من ترك المكان الذي ارتبطنا به وارتبط بنا، لم نكن نرغب في مغادرة المكان.. لكننا حملنا "صررنا" الممزقة بشظايا القذائف وما تيسر من بقايا نجا من الدمار والتجئنا حاملينها الى قرية بريقع وبعدها الى قرية ميفذون وهي قرى مجاورة لبلدتنا..

لا يطيب العيش مهما كان شكل المنزل الذي تسكنه، ان لم تجد فيه تلك الحميمة التي تعيش معك في بيتك الاول.. تناقلنا مع احزاننا الى ذلك البيت الذي قدرنا ان يكون مثل البيت الذي اصبح ركام.. قبلها كانت تراودنا فكرة بناء خيمة فوق انقاض منزلنا تعبيراً عن تعلقنا في ارضنا.. في بيتنا.. للحي الذي كنا نقيم فيه.. " خذني على الارض اللي ربتني.. خذني على ترابات ضيعتنا"..

"صامدون هنا قرب هذا الدمار العظيم.. وفي يدنا يلمع الرعب في يدنا.. وفي القلب غصن الوفاء النظيف"..

هكذا هو صمودنا قرب دمار بيتنا.. يصاحبه رعب دائم.. فوهات المدافع فوق رؤوسنا.. الموت رخيصاً الى حد لا تجد من يجروء على انتشالك كي لا يسقط قربك.. تناقلنا على اطراف القرى الجنوبية.. هجرتنا كانت من قرية الى قرية.. عدنا بعد اعوام الى البلدة التي فيها ارضنا والبيت الذي صار ركام.. لكننا الأن نسكن على طرفها الاخر.. هي حالة اهل الجنوب .. مألوفةً جداً تلك الهجرات التي ادمن عليها الجنوبيين.. حفاة القرى.." يا علي نحن اهل الجنوب.. حفاة المدن نروي سيرتك.. على اصفى البرك والاودية.. نروي سيرتنا والعالم لا يسمع.. كان لا بد من التفكير في الهجرة الثانية .. الهجرة التي تبعدك عن الوطن الذي تحب.. الهجرة البعيدة حيث اللغة اخرى.. والثقافة ليست منك.. وكل شيء يختلف عن كل شيء..

ها هي اشلائنا بقايانا نشتتها الى هجرات بعيدة.. الى بلاد الله الواسعة.. حيث وحدنا نتألم.. لا احد يسمع انيننا الا من مر في ضروف تشبه حالتنا.. هي كثيرة الهجرات التي قوضت اصحابها الحروب والنزاعات التي تعددت.. لكن الاكثر ضراوة، والاكثر وحشية تلك التي حصلت في تموز من العام 2006 تخطت كل تدمير وكل تهجير، فلم يقتصر الامر هذه المرة على القرى الامامية، بل لتشمل لبنان كله.. لم يبقى لدينا الا ان نرحل..

ها نحن الأن في بلاد لا ننتمي اليها .. نشتت احزاننا واشواقنا بين مشاغل الحياة والدراسة والعمل.. لا نجد وقتاً حتى كي نعود بذاكرتنا الى سنوات العذاب التي مرت فوق اجسادنا كما جنازير الدبابات التي نذكرها كيف كانت تحرث طرقاتنا التي تطبع ذاكرتنا من تكرارها..

هنا في هذه البلاد وجدت تعبيراً اخر عن حالتنا، من خلاله احاول ان افعل شيء.. احاول ان اكون الحدث والمعنى الذي يصبغ ذاتي من خلال المنتدى الذي تكون بفضل جميع الرفاق والاصدقاء.. لعل ما افعله يعبر ولو بالجزء البسيط عن حالة تأثرت بها ايما تأثير.. لعلني اوفي الشهداء الذين سقطوا تحت هذه العبارة، والتي صنعت من دمائهم خارطة لوطن اصبح عصياً على الاحتلالات وبفضلهم تحققت انتصارات شهد العالم الحر لها.. اسمائهم التي كبرت بفضل تضحياتهم.. اسماء سمت عالياً .. بهم ومنهم وبفضلهم " كانت جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية".. فكان موقع "جمول".. صار تعبيري الراسخ وبعض رد على تهميش حياتنا وحتى تعبيراً صارخاً بوجه من دمر بيوتنا وهجرنا منها..

انا لا ادون خاطرة بقدر ما اروي سيرة بعضاً من حياة هذا الرفيق التي تشبه الى حد كبير حياة الكثيرين من ابناء بلدتي ووطني .. بلدتي التي تشبه الكثير من القرى الجنوبية.. هي سرد قد يكون استشفافها من لحظة كلام عابرة.. مأسي تجول في خاطري منذ سنوات بعيدة اثخنتها جراح التدمير والتهجير والترحال.. حالة اعيشها يوماً تلو يوم.. كأنها ملازمة للذاكرة.. او كأن الذاكرة وجدت لها.. موجزة بالكاد تكون تعبيراً عن الماضي والحاضر المعاش.. حالة تتكرر كل يوم وتكبر.. في البدء كان لبيوت نذيرة من التدمير.. الأن اصبح تدمير قرى ومدن.. فهل من يسمع ، من يرى، او يشاهد.. انما العالم اصبح ينام ويفيق على اشياء تافهة.. دائماً التوازن يشبه بعضه.. مثلما تعرضت بيوت اجدادنا وابائنا للقصف والتدمير، تتعرض بيوتنا نحن الابناء لذات الفعل ومن ذات المصدر(صنع في اميركا).. نتوارث نحن هذه الاشياء مثلما يتوارث ابنا البكوات عن اجدادهم الزعامة.. لا بل يمعنون توارثاً في الصراع على المناصب والزعامات ودائماً وحتماً الفقراء حطبها..

ذهاب الرحالة الى ارض جديدة يشبه عودتك الى ارض تعرفها وفي مخيلتك صورة لها وكلما شعرت باختلاف الواقع عن الصورة تزداد دهشتك وحيرتك وتبالغ في اخراج الصورة القديمة من ذاكرتك لمقارنتها بمعالم المكان الجديد.. والفرق الوحيد بينك وبين الرحالة ان صورته عن المكان ليست في السيرة المدونة لا بل دائماً الاصح هو في مخيلتك.



" قاومت لتحرر دمك.. من عنابر الزيت.. وفمك من مخازن السكر.. وعظامك من مقاعد البكوات وامراءالدواوين لكن يا على اين تجد ارضاً وبيتاً افضل من بيتك وارضك"...

زكريا اسماعيل

No comments: