Tuesday

سأكون ضائعاً كأبي





«سأكون ضائعا كأبي». أجاب التلميذ المعلمة ردا على السؤال التقليدي الذي يقتحم أحلام الأطفال. ومن ورقة الليرات العشر المنسية على أرض مقهى «شيخ الشباب» أبو عاصي اشترى الكمان ـ الجوهرة وعصا الزمن عندما حقق حلمه بخلق فن مرصّع بأقانيم ثلاثة: الإيمان، الوطن والحب. وجميعها مستريحة على مبادئ ـ صخور غير قابلة للتفاوض وفي مقدمها الأخلاق والالتزام. أسئلة كثيرة طرحها عاصي الرحباني منذ ولادته مطلع العشرينيات ولغاية رحيل لن يحصل. أسئلة القلق والخوف والوعي والغياب. أما القوة فليست حتما في الجواب. أخذ على عاتقه وشقيقه تشذيب الأجيال. كل جيل يجد عنده ضالته. يجد لبنان الحلم والحب. يجد الأناقة الفطرية في اللحن والكلام. يجد نفسه الجميلة قبل أن تنغمس في وحول هذا العالم لتتحول الى شيء تعجز من بعدها عن التعرف اليه
في أنطلياس القرية والمدينة المتنية صقلته المعاناة وجوهرته التجارب. يقول منصور الرحباني: «إنها حكاية طفولة غريبة ترعرعت بين حفافي نهر الفوار وشجر الحور والصفصاف ووعر الجبال والصخور ومغاور انطلياس التاريخية... حكاية الفقر والحرمان حتى الوجع المر والبكاء الصامت الذي ينتهي دموعا حافية على أطراف مخدة ممزقة فوق فراش عتيق». في سن الـ14 ألف عاصي مجلته «الحرشاية» وفي بساتين ليمون انطلياس، خبأ ومنصور «خيبات» التجارب الأولى بعدما لملماها من ساحة البلدة التي شهدت الأخوين في مسرحية «يوسف بك كرم» التي كان الضرب المبرح نصيبهما منها على ايدي شبان شيوعيين من انطلياس، ومسرحية «النعمان الثالث ملك الحيرة» التي انتهت بهرج ومرج. خيبات كانت أولى الخطوات نحو النجاح بل الإبداع في ربط الجمال بالهم الإنساني. فأمام قدر قاس لم يبخل عليه بالمرض والظلم والموت، تسلح بإيمان من قد يتذمر من خالقه ولكنه في النهاية يختار التعويل على رحمته وانتظار عدله
وفي شوارع انطلياس أيضا «ضبط» عاصي إيقاع البلدة كـ«بوليس» للبلدية وهي المهنة التي زاولها نزولا عند رغبة والده القائل بأن «الفن لا يطعم خبزا». وفي خباياها «عاشر» القرويين و«القبضايات» من رواد مقهى أبي عاصي. الناس كانت هي الكتب «السميكة» التي قرأها ومنها نذر نفسه للأصالة وأعطى في مسرحياته «قائمة المحتويات والأدوات» لبناء الأوطان وسوس الشعوب. «الفن ابن الوعي». عبارة يحتاج الشخص العادي لقرون كي يتوصل اليها. أما لعاصي الرحباني فوفت الفطرة والعفوية بالغرض. الفطرة في الاكتساب والعفوية المشغول عليها. ليست صدفة أن ينفجر دماغ عاصي الرحباني في عيد الأب لأن أبوة أخرى انبلجت في عتمة بحاجة الى من يهدم هيكلها ويجعلها بفكره الاستشرافي تلفظ زناديقها ليعود بعدها الى جنة الخلود تاركا وراءه نورا لا ينطفئ
لا يمكن فصل عاصي الرحباني «الحالة» عن انطلياس. ولا يمكن للعامية ولنقطة التقاء كل لبنان ولمرتع الإنسان الأول إلا أن تقدم في النهاية هدية للبنان والعالم هي عاصي الرحباني. وإذا كانت هناك مدن تخلق ناسا، وناس في المقابل تخلق مدنا، ففي حالة عاصي الرحباني «انه التكامل» على ما يقول رئيس دير مار الياس ـ انطلياس الأب جوزف عبد الساتر حيث «خلقت انطلياس عاصي وعاد هو وخلق انطلياس من جديد
وليس من المستغرب أن يطلق على مسرح دير مار الياس انطلياس العام الماضي اسم «مسرح الأخوين رحباني». ألم يكن الأب بولس الأشقر هو من أحدث التحول الكبير في حياته بعدما أعطى فرصة تعلم الموسيقى للفتى الذي كان يقف خلف باب الصف منتظرا الفرصة التي أتت في النهاية عام 1938؟ وقالها عاصي في العام 1963 عندما كان يروي تجربته وشقيقه منصور مع الأب الأنطوني: «ندهنا (الأب بولس الأشقر) من طفولتنا التائهة وعلّمنا الموسيقى. ولقننا دخول وديان النفس والأماكن العميقة في الضمير. وعلمنا أننا أمام أبواب الفن نبقى تلاميذ وأن الفرحة الكبرى هي فرحة الإنسان بولادة الجمال
فريق الأربعة
«فريق الأربعة» الذي تألف في الخمسينيات من زكي ناصيف، عبد الغني شعبان وتوفيق الباشا، كان عاصي ومنصور الرحباني حجر الزاوية فيه نحو لبننة الموسيقى ضمن «الفوضى الثقافية اللبنانية البناءة» التي سادت منذ تلك الحقبة ولغاية عشية اندلاع الحرب فنجحت، من ضمن غيرها من الفعاليات الثقافية والفنية، في تعزيز الهوية اللبنانية وبناء ثقافتها. وفي الذكرى الـ21 للرحيل المادي لعاصي الرحباني، ما زالت انطلياس على الوعد
يروي أحد «العتاق» أن زياد الرحباني عندما ألف «معرفتي فيك» هوجم أن كيف لفيروز أن تغني هذا الكلام. وعندها قال عاصي لأبي عاصي: «أنت تكمل ما بدأناه والناس إذا لم يفهموك اليوم سيفهمونك غدا فنحن في البداية لم يفهم علينا أحد». والرهان اليوم ألا تبقى المبادئ التي رسخها الفن الرحباني مجرد أفكار، نفهمها نعم لكن لا نطبقها أو على الأقل لا نحاول ذلك. والسخرية أن أهل السياسة عندنا لا يتوانون عن الاستشهاد بالأقوال الرحبانية في جلساتهم التي تشبه «عطر الليل» ولكن المعاكس. «تقول وتمشي ويبقى بعد ان تمشي... الكثير

No comments: